فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{القارعة}
من أسماء القيامة؛ لأنها تقرع القلوب بالفزع، وتقرع أعداء الله بالعذاب.
والعرب تقول قرعتهم القارعة: إذا وقع بهم أمر فظيع.
قال ابن أحمر:
وقارعة من الأيام لولا ** سبيلهم لراحت عنك حينا

وقال آخر:
متى نقرع بمروتكم نسؤكم ** ولما يوقد لنا في القدر نار

{والقارعة} مبتدأ، وخبرها قوله: {مَا القارعة}.
وبالرفع قرأ الجمهور.
وقرأ عيسى بنصبها على تقدير: احذروا القارعة.
والاستفهام للتعظيم، والتفخيم لشأنها، كما تقدّم بيانه في قوله: {الحاقة مَا الحاقة وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحاقة} [الحاقة: 1 3].
وقيل: معنى الكلام على التحذير.
قال الزجاج: والعرب تحذر وتغري بالرفع كالنصب، وأنشد قول الشاعر:
لجديرون بالوفاء إذا قال ** أخو النجدة السلاح السلاح

والحمل على معنى التفخيم، والتعظيم أولى، ويؤيده وضع الظاهر موضع الضمير، فإنه أدلّ على هذا المعنى.
ويؤيده أيضًا قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا القارعة} فإنه تأكيد لشدّة هولها، ومزيد فظاعتها حتى كأنها خارجة عن دائرة علوم الخلق بحيث لا تنالها دراية أحد منهم، وما الاستفهامية مبتدأ، و{أدراك} خبرها.
و{ما القارعة} مبتدأ وخبر.
والجملة في محل نصب على أنها المفعول الثاني؛ والمعنى: وأيّ شيء أعلمك ما شأن القارعة؟ ثم بيّن سبحانه متى تكون القارعة فقال: {يَوْمَ يَكُونُ الناس كالفراش المبثوث}.
وانتصاب الظرف بفعل محذوف تدلّ عليه القارعة، أي: تقرعهم يوم يكون الناس إلخ، ويجوز أن يكون منصوبًا بتقدير اذكر.
وقال ابن عطية، ومكي، وأبو البقاء: هو منصوب بنفس القارعة، وقيل: هو خبر مبتدأ محذوف، وإنما نصب لإضافته إلى الفعل، فالفتحة فتحة بناء لا فتحة إعراب، أي: هي يوم يكون إلخ.
وقيل التقدير: ستأتيكم القارعة يوم يكون.
وقرأ زيد بن علي برفع يوم على الخبرية للمبتدأ المقدّر.
والفراش: الطير الذي تراه يتساقط في النار، والسراج، والواحدة فراشة، كذا قال أبو عبيدة وغيره.
قال الفراء: الفراش هو الطائر من بعوض وغيره، ومنه الجراد.
قال وبه يضرب المثل في الطيش، والهوج، يقال: أطيش من فراشة، وأنشد:
فراشة الحلم فرعون العذاب وإن ** يطلب نداه فكلب دونه كلب

وقول آخر:
وقد كان أقوام رددت حلومهم ** عليهم وكانوا كالفراش من الجهل

والمراد بالمبثوث المتفرّق المنتشر.
يقال بثه: إذا فرقه.
ومثل هذا قوله سبحانه في آية أخرى: {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} [القمر: 7] وقال: {المبثوث}، ولم يقل المبثوثة؛ لأن الكل جائز، كما في قوله: {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} [القمر: 20] و{أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] وقد تقدّم بيان وجه ذلك.
{وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش} أي: كالصوف الملوّن بالألوان المختلفة الذي نفش بالندف.
والعهن عند أهل اللغة: الصوف المصبوغ بالألوان المختلفة، وقد تقدّم بيان هذا في سورة سأل سائل، وقد ورد في الكتاب العزيز أوصاف للجبال يوم القيامة.
وقد قدّمنا بيان الجمع بينها.
ثم ذكر سبحانه أحوال الناس، وتفرّقهم فريقين على جهة الإجمال فقال: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ موازينه فَهُوَ في عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} قد تقدّم القول في الميزان في سورة الأعراف، وسورة الكهف، وسورة الأنبياء.
وقد اختلف فيها هنا.
فقيل: هي جمع موزون وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله، وبه قال الفرّاء وغيره.
وقيل: هي جمع ميزان.
وهو الآلة التي توضع فيها صحائف الأعمال، وعبر عنه بلفظ الجمع، كما يقال لكلّ حادثة ميزان، وقيل: المراد بالموازين الحجج والدلائل، كما في قول الشاعر:
لقد كنت قبل لقائكم ذا مرة ** عندي لكلّ مخاصم ميزانه

ومعنى عيشة راضية مرضية يرضاها صاحبها.
قال الزجاج، أي: ذات رضى يرضاها صاحبها.
وقيل: عيشة راضية أي: فاعلة للرضى، وهو اللين، والانقياد لأهلها.
والعيشة كلمة تجمع النعم التي في الجنة: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ موازينه} أي: رجحت سيئاته على حسناته، أو لم تكن له حسنات يعتدّ بها {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} أي: فمسكنه جهنم.
وسماها أمه؛ لأنه يأوي إليه، كما يأوي إلى أمه.
والهاوية من أسماء جهنم.
وسميت هاوية؛ لأنه يهوي فيها مع بعد قعرها.
ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
فالأرض معقلنا وكانت أمنا ** فيها مقابرنا وفيها نولد

وقول الآخر:
يا عمرو لو نالتك أرماحنا ** كنت كمن تهوي به الهاوية

والمهوى، والمهواة: ما بين الجبلين، وتهاوى القوم في المهواة: إذا سقط بعضهم في إثر بعض.
قال قتادة: معنى {فَأُمُّهُ هاوية} فمصيره إلى النار.
قال عكرمة: لأنه يهوي فيها على أمّ رأسه.
قال الأخفش: أمه مستقرّه.
{وَمَا أَدْرَاكَ ماهية} هذا الاستفهام للتهويل، والتفظيع ببيان أنها خارجة عن المعهود بحيث لا تحيط بها علوم البشر، ولا تدري كنهها.
ثم بيّنها سبحانه فقال: {نَارٌ حَامِيَةٌ} أي: قد انتهى حرّها، وبلغ في الشدّة إلى الغاية، وارتفاع نار على أنها خبر مبتدأ محذوف، أي: هي نار حامية.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس قال: {القارعة} من أسماء يوم القيامة.
وأخرج ابن المنذر عنه في قوله: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} قال: كقوله هوت أمه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} قال: أمّ رأسه هاوية في جهنم.
وأخرج ابن مردويه عن أنس قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات المؤمن تلقته أرواح المؤمنين يسألونه ما فعل فلان ما فعلت فلانة؟ فإذا كان مات، ولم يأتهم قالوا: خولف به إلى أمه الهاوية، فبئست الأمّ، وبئست المربية» وأخرج ابن مردويه من حديث أبي أيوب الأنصاري نحوه.
وأخرج ابن المبارك من حديث أبي أيوب نحوه أيضًا. اهـ.

.قال القاسمي:

سورة القارعة:
بسم الله الرحمن الرحيم
{الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ}
قال أبو السعود: القرع هو الضرب بشدة واعتماد، بحيث يحصل منه صوت شديد، وهي القيامة. سميت بها لأنها تفزع القلوب والأسماع بفنون الأفزاع والأهوال، وتخرج جميع الأجرام العلوية والسفلية من حال إلى حال: السماء بالانشقاق والانفطار، والشمس والنجوم بالتكوير والانكدار والانتثار، والأرض بالزلزال والتبديل، والجبال بالدك والنسف.
وهي مبتدأ خبره قوله تعالى: {مَا الْقَارِعَةُ} على أن ما الاستفهامية خبر والقارعة مبتدأ، لا بالعكس؛ لأن محط الفائدة هو الخبر لا المبتدأ. ولا ريب في أن مدار إفادة الهول والفخامة هاهنا هو كلمة ما، لا القارعة أي: أي: شيء عجيب هي في الفخامة والفظاعة؟ وقد وضع الظاهر موضع الضمير تأكيدًا للتهويل.
وقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} تأكيد لهولها وفظاعتها، ببيان خروجها عن دائرة علوم الخلق، على معنى أن عظم شأنها ومدى شدتها بحيث لا تكاد تناله دراية أحد، حتى يدريك بها، أي: وأي شيء أعلمك ما شأن القارعة؟ ولما كان هذا منبأ عن الوعد الكريم بإعلامها، أنجز ذلك بقوله تعالى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} أي: هي يوم يكون الناس فيه كالفراش المبثوث في الكثرة والانتشار، والضعف والذلة والاضطراب، والتطاير إلىالداعي، كتطاير الفراش إلى النار. فـ {يَوْمَ} خبرمحذوف بني على الفتح لإضافته إلى الفعل، أو هو منصوب بإضمار اذكر، كأنه قيل بعد تفخيم أمر القارعة وتشويقه عليه الصلاة والسلام إلى معرفتها: اذكر يوم يكون الناس.
{وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} أي: كالصوف المندوف في تفرق أجزائها وتطايرها في الجو. ولما كان من المعلوم أن ذلك اليوم هو اليوم الذي تبتدئ فيه الحياة الآخرة، وفيها تعرف مقادير الأعمال وما تستحقه من الجزاء، رتب عليه قوله تعالى: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ}
قال ابن جرير: أي: فأما من ثقلت موازين حسناته، يعني بالموازين الوزن. والعرب تقول: لك عندي درهم بميزان درهمك، ويقولون: داري بميزان دارك ووزن دارك، يراد حذاء دارك.
قال الشاعر:
قد كنتُ قبل لقائكم ذا مِرَّة ** عندي لكلِّ مخاصم ميزانُهُ

يعني بقوله: ميزانه كلامه وما ينقض عليه حجته. وكان مجاهد يقول: ليس ميزان إنما هو مثل ضرب. انتهى.
وعليه فالموازين جمع ميزان. وجوز كونهُ جمع موزون، وهو العمل الذي له خطر ووزن عند الله تعالى. ومعنى قوله: {فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} أي: في عيشة قد رضيها في الجنة، فـ {رَّاضِيَةٍ} بمعنى مرضية على التجوز في الكلمة نفسها أو في إسنادها، أو استعارة مكنية وتخييلية.
{وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} أي: وزن حسناته.
{فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} أي: فمأواه ومسكنه الهاوية التي يهوي فيها على رأسه في جهنم.
قال الشهاب: فسمى المأوى أُمًّا على التشبيه تهكمًا؛ لأن أم الولد مأواه ومقره. وفي (التأويلات): قيل المراد أم رأسه، أي: يلقى في النار منكوسًا على رأسه. انتهى.
والأول هو الموافق لقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ} فإنه تقرير لها بعد إبهامها، والإشعار بخروجها عن الحدود المعهودة للتهويل. أصل {مَا هِيَهْ}
ماهي، كناية عن الهاوية فأدخل في آخرها هاء السكت وقفًا. وتحذف وصلًا، وقد أجيز إثباتها مع الوصل. اهـ.

.قال سيد قطب:

سورة القارعة:
{الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2)}
تقرع القلوب بهولها.
والسورة كلها عن هذه القارعة. حقيقتها. وما يقع فيها. وما تنتهي إليه.. فهي تعرض مشهدا من مشاهد القيامة.
والمشهد المعروض هنا مشهد هول تتناول آثاره الناس والجبال. فيبدو الناس في ظله صغارا ضئالا على كثرتهم: فهم {كالفراش المبثوث} مستطارون مستخفون في حيرة الفراش الذي يتهافت على الهلاك، وهو لا يملك لنفسه وجهة، ولا يعرف له هدفا! وتبدو الجبال التي كانت ثابتة راسخة كالصوف المنفوش تتقاذفه الرياح وتعبث به حتى الأنسام! فمن تناسق التصوير أن تسمى القيامة بالقارعة، فيتسق الظل الذي يلقيه اللفظ، والجرس الذي تشترك فيه حروفه كلها، مع آثار القارعة في الناس والجبال سواء! وتلقي إيحاءها للقلب والمشاعر، تمهيدا لما ينتهي إليه المشهد من حساب وجزاء!
{القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة}..
لقد بدأ بإلقاء الكلمة مفردة كأنها قذيفة: {القارعة} بلا خبر ولا صفة. لتلقي بظلها وجرسها الإيحاء المدوي المرهوب!
ثم أعقبها سؤال التهويل: {ما القارعة}.. فهي الأمر المستهول الغامض الذي يثير الدهش والتساؤل!
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ (5) فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)}
ثم أجاب بسؤال التجهيل: {وما أدراك ما القارعة}.. فهي أكبر من أن يحيط بها الإدراك، وأن يلم بها التصور!
ثم الإجابة بما يكون فيها، لا بماهيتها. فماهيتها فوق الإدراك والتصور كما أسلفنا:
{يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش}..
هذا هو المشهد الأول للقارعة. مشهد تطير له القلوب شعاعا، وترجف منه الأوصال ارتجافا. ويحس السامع كأن كل شيء يتشبث به في الأرض قد طار حوله هباء! ثم تجيء الخاتمة للناس جميعا:
{فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية وما أدراك ما هيه نار حامية}.
وثقل الموازين وخفتها تفيدنا: قيما لها عند الله اعتبار، وقيما ليس لها عنده اعتبار. وهذا ما يلقيه التعبير بجملته، وهذا- والله أعلم- ما يريده الله بكلماته. فالدخول في جدل عقلي ولفظي حول هذه التعبيرات هو جفاء للحس القرآني، وعبث ينشئه الفراغ من الاهتمام الحقيقي بالقرآن والإسلام!
{فأما من ثقلت موازينه} في اعتبار الله وتقويمه {فهو في عيشة راضية}.. ويدعها مجملة بلا تفصيل، توقع في الحس ظلال الرضى وهو أروح النعيم.
{وأما من خفت موازينه} في اعتبار الله وتقويمه {فأمه هاوية}.. والأم هي مرجع الطفل وملاذه. فمرجع القوم وملاذهم يومئذ هو الهاوية! وفي التعبير أناقة ظاهرة، وتنسيق خاص. وفيه كذلك غموض يمهد لإيضاح بعده يزيد في عمق الأثر المقصود:
وما أدراك ما هيه؟..
سؤال التجهيل والتهويل المعهود في القرآن، لإخراج الأمر عن حدود التصور وحيز الإدراك!
ثم يجيء الجواب كنبرة الختام:
نار حامية..
هذه هي أم الذي خفت موازينه! أمه التي يفيء إليها ويأوي! والأم عندها الأمن والراحة. فماذا هو واجد عند أمه هذه.. الهاوية.. النار.. الحامية!!
إنها مفاجأة تعبيرية تمثل الحقيقة القاسية!. اهـ.